الحكمة للقديس غريغوريوس النزينزى
+ يقول القديس غريغوريوس النزينزي:"كان سليمان أحكم الجميع (1مل3: 12)، سواء في أيام زمانه أوما قبلها، وقد وهبه الله اتساع القلب، وفيضاً من التأمل، أكثر من الرمل، فإنه بقدر ما كان يدخل إلى أعماق الحكمة العظيمة يشعر بالأكثر بعلوها العظيم. وقد أعلن كيف أن الحكمة بعيدة جداً عنه (جا7: 23)"
المنتقم من أخيه غالب فى عينى نفسه وأعين الناس ، أما عند الله فهو مغلوب على أمره وصفقة خاسرة .
القديس أبونا ميخائيل البحيرى
باسم الثالوث الأقدس
تحية وتطويب لشهداء مصر
بقلم القديس يوحنا ذهبي الفم
An Encomium on Egyptian Martyrs
John Chrysostom
Praise God that martyrs originate even from Egypt - Egypt, the land that fights God and is totally out of its mind, and is the source of godless mouths, the source of blaspheming tongues- [that] martyrs originate from Egypt, yet [are] not just in Egypt, nor in the adjoining and neighboring region, but all over the world, too.
Indeed, it's just like the surplus of supply; when the people who live in the cities see that production is more than the inhabitants require, they distribute it to foreign cities, too, at one and the same time demonstrating the kindliness that exists among them and in turn readily purchasing from [the foreign cities] whatever they need in addition to the abundance of those goods. So, too, have the Egyptians done regarding the athletes of piety. When they saw that by God's grace the production among them had become substantial, they didn't lock this great gift of God up in the city. Instead, they sent these ware houses of blessings out all over the earth, both demonstrating their sisterly and brotherly love and glorifying the common Master of all, and also embellishing their city among everyone and making it evident that it was a metropolis of the entire world.
I mean, if cheap and worthless resources that reward us with pleasures just for the present life could supply this gift to many of the cities, how isn't it right that the [city] graced with none of these momentary and perishable things, but men who acquired considerable security even after death for the cities who inherited them, that it above all attain this pre-eminence among them. For the bodies of these saints fortify our city more securely than any wall that is of adamant or impregnable.
Indeed, just like some towering rocks that thrust forward on all sides, they don't just beat back the attacks of these perceptible and visible enemies, but also the machinations of the invisible demons, and both overthrow and destroy every one of the Devil's wiles as easily as if some noble man were to overthrow and ruin children's toys. And while, regarding the other machinations that occur among human beings, such as walls and ditches and weapons and multitudes of soldiers, and everything that's devised for the safety of the inhabitants, it's possible for enemies to beat them back by other more numerous and substantially excessive contrivances of their own, whenever a city is fortified by saints' bodies, even if [their enemies] spend copious amounts of money, they won't be able to set any mechanism of the sort against the cities that possess them.
مبارك الله يا أحبائي!
شهداء يأتونا من مصر!
نعم شهداء في هذه المنطقة التي كانت همجية ومقاومة تماماً للإله الحقيقي!
في مصر هذه حيث ما كان الفم ينطق إلا بالشرور، ولا اللسان إلا بالتجاديف ..
ماذا أقول: شهداء في مصر، وشهداء في المناطق المجاورة، ولنقل أكثر من ذلك لأني أرى شهداء في كل الأرض.
ونحن نعلم أنه لو حصدت بلد ما من محصولها وفرة تزيد عن حادات استهلاكها فإنها توزع الفائض على المدن الأجنبية، كيما تعبر عن إهتمامها بالعطف على الغير، وكيما تحصل عن طريق تبادل المواد، على كل نوع مما لا تنتجه أرضها. هكذا فعل المصريون فيما يتعلق بمجاهدي الإيمان، فقد صاروا أغنياء حقاً بسبب وفرة هؤلاء الأبطال المسيحيين عندهم، ولم يريدوا أن يحجزوا داخل بلادهم هذه البركة التي نالوها من سخاء الله. بل سروا بأن يفرقوا الكنز على كل الأرض. وبهذا السخاء أثبتوا محبتهم للمسيحيين إخوتهم، كما أرادوا أن يمجدوا سيد جميع البشر، ويزينوا بلادهم ويظهروها كالمدينة النموذجية وأم مدائن المسكونة.
لقد أمكن للأحداث العامة التافهة، والمصالح التي لا تتعدى منفعتها اهتمامات العالم الحاضر، أن تُكسب لقب "المدينة الأم" لمدن كثيرة قديمة، فكم بالأولى جداً، وأكثر من أي مدينة أخرى، تستحق هذا الإمتياز الرفيع، المدينة التي عوض أن توزع خيرات أرضية فانية تعد أنانساً ليصيروا بعد موتهم حصناً للمدن التي تقبلهم، وحقاً أن رفات الشهداء هي حصن لمدننا، أكثر ضماناً من الأسوار السميكة جداً، حتى ولو كانت من الماس.
ها هم الشهداء، إنهم كالصخور الشامخة التي يصعب إقتحامها، بل إن رفاتهم تفعل أكثر من صد هجمات الأعداء المنظورين، إنها تهزم أيضاً هجمات ومؤامرات الشياطين غير المنظورين، وتفضح حيلهم بالسهولة التي يسحق بها إنسان مناضل قوي لعب الأطفال. ونحن نقرر أنه من أجل ضمان سلام مواطني أية مدينة، قد لا تجدي جميع الوسائل التي يقيمها البشر، مثل الحوائط السميكة والخنادق العميقة، والجنود الكثيرين الشجعان، حينما يستعمل العدو وسائل أكثر ومخترعات أعظم، ولكن مغبوطة هي تلك المدن التي تحميها رفات الشهداء الأماجد فعبثاً يجترئ الأعداء عليها بكافة وسائلهم وإمكاناتهم، إذ يظهر عجزهم الفاضح بإزاء القوة التي يهاجمونها.
بل إن اقتناء هذه الرفات يا إخوتي الأحباء، ليس نافعاً فقط لفضح مؤامرات الناس أو حيل الشيطان الماكرة، بل حتى لو كنا قد جلبنا على أنفسنا غضب الله بأخطائنا الكثيرة، فلنلجأ إلى هذه الرفات ونحتمي بها وهوذا الله يعود سريعاً ويرضى عن بلادنا. فإن كان قد حدث في الأزمنة الغابرة أن استطاعت بعض الشخصيات البارزة أن تقبل من الله معونة ما، بالتشفع بأمانة القديسين العظام، وأن تربح كثيراً بالعاء بأسماء إبراهيم وإسحق ويعقوب، فكم بالأولى نستطيع نحن أن نجعل الرب يصير رحيماً رؤوفاً ومحباً لنا، إذ نقدم له ليس فقط أسماء بل وبقايا مسيحيين استشهدوا من أجل مجده. بل إن قولي هذا ليس بدون برهان عملي، فإني أدعوكم يا مواطني هذه العاصمة، وكذا أنتم أيضاً الغرباء عن حدودنا، نعم أدعوكم أن تقولوا لنا، ما هي القوة القاهرة لأبطال الإيمان هؤلاء؟ إشهدوا لكلامي أنتم يا من بخبرتكم المحسوسة تعلمون الدالة العظيمة التي يتمتع بها هؤلاء القديسون المكرمون لدى الله ... وهي دالة مبنية على أساس، فإن نضالهم من أجل الحق لم يكن جهاداً عادياً وبلا تضحيات، لأنهم كانوا يدفعون هجمات واندفاعات الشياطين الرهيبة بقوة وشجاعة حاسمة، كما لو كانت أعضاؤهم من صخر وحديد، ولم تكن أعضاء زائلة وقابلة للموت، فمن يشهد شجاعتهم يحسبهم قد لبسوا تلك الطبيعة الخالدة غير القابلة للعذاب والهلاكبإزاء الضربات القاسية جداً والممزقة جداً، فقد كان المضطهدون القساة الهائجون كحيوانات مفترسة، يحاصرون أجسادهم غير المقهورة، يثقبون ويحفرون جنباتهم ويمزقون أوصالهم ويعرون عظامهم ويبدون نهمين جداً في قساوتهم الهمجية، ولكن عبثاً كانوا يمزقون الأجساد، وعبثاً كانوا ينشبون أظفارهم الحديدية حتى داخل أحشائهم ، إذ كان مستحيلاً عليهم أن ينزعوا كنز إيمانهم. لقد كان رجاء المضطهدين يخيب، إذ كانوا كالمحاصرين للمدينة الملكية بهدف نهب كنوزها، اللذين بعد أن يحطموا أسواراها يشرعون في كسر الأبواب، وتحطيم المتاريس الحديدية، وخلع البلاط والتنقيب في كل مكان لعلهم يجدون كنوز الملك، لكنهم ينسحبون بعد ذلك دون أن يكونوا قد تمكنوا من أن يجدوا شيئاً أو أن يحملوا شيئاً.
هذه هي طبيعة ثروات نفوسنا ... فباطلاً يسعى أحد ليسلبها بقوة العذاب، حينما تريد النفس أن تسهر عليها بعين منتبهة. فحطموا وانبشوا كما تريدون هذا الصدر، ومزقوا هذا القلب أرباً، فأبداً لن تغصبوا النفس التي تحركه، على أن تسلم وديعة الإيمان التي إئتمنت عليها. هذه الشجاعة غير المقهورة هي من عمل نعمة الله. من الله الذي يدبر كل شيء من أجل مجد قديسيه. ويجعل أعضاءهم أدوات لمعجزات باهرة جداً.
يا للمعجزة الجديرة جداً بالإعجاب، فإنه عبثاً يثير المعذبون غضبهم الجنوني على الشهداء، كيما ينتزعوا كنز إيمانهم، وماذا يفعلون؟ لا شيء إلا أن يزيدوا حرصهم عليه وينموا استحقاقاتهم ويعظموا مجدهم. وليست النفس فقط التي تقبل فيض النعمة من أجل الجهاد بل الجسد أيضاً له نصيبه في هذا المجال. وليس فقط أنه لا يفقد شيئاً من طاقته الطبيعية بل مع كون هذه الأعضاء ممزقة تماماً ومشوهة تماماً، فإنها تبدي قوة مذهلة للغاية وتفوق الإدراك جداً. أفلا تبدو لكم إذن في غاية الدهشة نصرة هؤلاء الشهداء؟ وخاصة في الوقت الذي يمسك الطغاة بقبضتهم على هؤلاء المجاهدين ويعذبونهم كما يريدون، فرغماً عن ذلك ينكسر هؤلاء المعذبون بخزي، وينغلبون لماذا؟ لأنهم لا يتواجهون مع بشر بل إله السماء الذي يسكن فيهم. ومن يقاوم الله ضابط الكل، هل يمكن أن يتوقع إلا الهزيمة الأكيدة؟ لا يستطيع أحد أن ينكر أن مثل هذا المقاوم سوف يعاقب على جسارته الجريئة.
Beloved, this possession isn't just useful for us against humans' machinations or demons' malicious acts. Rather, even if our common Master were to get angry because of the multitude of our sins, we'll swiftly be able to make him merciful towards the city by throwing up these bodies as a shield. For if those among our forefathers who achieved great things attained some comfort by throwing up as a shield the s of holy men and taking refuge in the citing of ‘Abraham, Isaac, and Jacob" (Ex 32, Bar 2), and enjoyed great assistance from the memory of these s, by far more will we, whenever we throw up as a shield not just s, but also the very bodies that competed, be able to have God merciful and mild and gentle. And that what's being said by us is no boast, many of those who are local inhabitants and those who've come from elsewhere know how great is the power of these saints, who also give testimony to what's been said, since they've learnt through experience itself their bold speech with God. And rightly so! For they didn't fight for truth in the usual way, but staunchly and zealously resisted the Devil's violent and intolerable force, fighting as if in bodies of stone and iron, but not in perishable and mortal ones, as if already converted into the insensible and immortal nature that doesn't yield to the bitter and painful necessities of the body. My point is that, like some savage and cruel and harsh wild animals, the executioners circled their bodies on all sides and punctured their ribs, lacerated their flesh, excavated their bones and laid them bare, and nothing stayed them from that cruel and inhuman behavior. Yet, even though they grabbed spines and intestines and worked their way right into the innards, they didn't find a way to steal the treasure of faith that was stored up inside them. Rather, their experience was the same as if someone were to besiege a most imperial city that was brimming with a great deal of wealth and possessed many treasures and bring down its walls and, on arriving at the treasuries [holding] the money, overturn doors, smash locks, dig up floors, and, after thoroughly scrutinizing everything, were unable to snatch away its treasure and depart. My point is that the soul's possessions are like that. They aren't betrayed by the body's passions, when it esc. the soul) securely retains them; instead, if someone were to break up the chest cage itself and take the heart and cut it open little by little, it wouldn't betray the treasure once it'd been entrusted to it by faith. This is the work of God's grace, that organizes everything and enables miracles to be accomplished in feeble bodies. Truly, this is even more amazing. For not only didn't those who exhibit insanity to this degree spirit away any of the treasures stored up in them, but they even caused them to be protected with greater security, and made them both more brilliant and more opulent My point is that no longer the soul alone, but even the body itself shared in more abundant grace, and not only didn't throwaway what it possessed after it was cut into pieces and often chopped up but also even took on a more abundant and substantial importance. What could be more amazing than this victory, in that those whom they detained and had under their control and imprisoned and scourged with authority, they couldn't conquer, but were instead defeated pitifully and wretchedly by them? For they weren't battling against them, but against God who dwelt in them. It's pretty much obvious to everyone that it's completely inevitable that the person who does battle with God is defeated comprehensively, after paying a penalty for just the attempt.
This is what the saints' victories are like. If the contests and wrestling bouts are so amazing and miraculous, what might we say about the prizes and crowns stored up for tl1em on account of their boldness? For they didn't stop at these tortures, nor did they quit the race at this point; instead their bouts were extended further, with, on the one side, the wicked demon expecting to trip up the athletes by the heaping on of torments, and on the other, God who loves human beings acquiescing and not preventing him. The result is that the madness of tl1e non-Christians is revealed more clearly to everyone, and for the [athletes] he weaves more brilliant and abundant crowns. Indeed, it is just as occurred in the case of Job and the Devil The latter demanded from God more numerous torments against him in the expectation that he'd get around the noble athlete of piety by the heaping on of the disasters. God, on the other hand, acquiesced and granted the wicked demon's wicked requests, so making his athlete more renowned. So it happened in this case, too. For when he chewed their body all over more savagely than any wild animal and bloodied his tongue and mouth, even if it wasn't with the saints' blood, but with those inhuman and pitiless votes, he was defeated by their boldness and, having more than glutted himself with that inhuman feast and taken his fill, he departed. Consider how great the saints' patience was, which satisfied so great a madness with its own passions. He attacked again, driven to the struggle by his madness and striving to be the ultimate winner over every wild animal by means of a different savagery. My point is that they (sc. the animals) approach this feast through the compulsion of nature and depart when they have had their fill, and even if they see countless bodies they attack but one of them. But this animal (sc. the Devil) actually attacked this food through the wickedness of his choice, and when he'd glutted himself on their flesh, wove another plot against them, betraying these saints to a long drawn-out and extremely cruel death. For he ordered that they labor in the mines in perpetuity.
What stupidity! Despite gaining so clear an experience of their courage and patience, he expected to get around them with this [torture]. After all, the saints, who live side by side with the angels, and are citizens of heaven and are now enlisted in the heavenly Jerusalem, lived side by side with wild animals and the wilderness was then more holy than any city. For while in the cities these illegal and tyrannical commands were undertaken day after day, the wilderness rejoiced in immunity from that inhuman liturgy. And while the law courts were full of unholy practices and impious commands, the wilderness contained citizens more law abiding than any other people, who had turned from humans into angels, and the wilderness rivaled heaven as a result of the virtue of the citizens who lived in it. And while the punishment was by nature extremely harsh. through the enthusiasm of the competitors it became easy and light and readily bearable. They thought t11at they saw the light magnified many times at that time, and they thought that what had been said by the prophet: "the moon will be like the sun and the sun seven times brighter" (Is 30.26), had already obscured the light. For there is nothing, there is nothing more cheerful than a soul considered worthy of suffering for Christ's sake any of these things that we consider terrible and unbearable.
They thought that they had already migrated to heaven and were dancing with the angels. Rather, what need did they have of angels and heaven, when Jesus the Lord of angels was with them in the wilderness? For if where there are two or three gathered in his , he is there in the midst of them (cf. Mt 18.20), by far more was he in the midst of those who had gathered at that time, who were being punished perpetually not, as it were, in his , but for his 's sake. For you know, you know clearly that there is no other punishment more cruel than this one and that those condemned to this sentence would choose to endure countless other deaths than to endure the pain that comes from there. They were delivered to the mines where they had to dig up copper, when they themselves were many times more valuable than mineral gold or gold dust, gold not dug up by the hands of condemned people, but discovered by the zeal of men of faith. They who were full of countless treasures worked mines. What is more bitter and painful than that life? They observed the tales told about those great men fulfilled in themselves too, the ones Paul narrated about the saints, when he said: "They whom the world didn't deserve went around in sheepskins, in goatskins, afflicted, set upon, mistreat" (Heb 11.37-38) (wandering in wildernesses and mountains and caves and the caverns of the earth. These events took place even in our generation.)
So then, beloved, since we too know these truths, that both now and long ago, since humans came into existence, all those dear to God have been allotted a life that's gloomy and toilsome and full of countless troubles, let us not pursue the life t11at's soft and dissolute and full of idleness, but rather the toilsome [life], the laborious [life], the [life] that has trials and tribulations. For just as the contestant can't attain the crowns through sleeping and laziness and luxury, nor the soldier the trophies, nor the helmsman the harbor, nor the farmer the full threshing-floor, so neither does the Christian who spends their life in laziness attain the promised blessings. How, then, isn't it absurd that in all worldly matters we put labors ahead of pleasure, and risks ahead of security, and this when the expected outcome of those labors is of little value and trivial; yet when it's heaven that lies ahead of us and angelic honors and a life that has no end and spending time with angels and the blessings of which one can neither conceive nor speak, we expect to achieve them through laziness and indolence and a dissolute soul and not to dignify them with the same effort as worldly matters? Don't, please, don't let's plan so badly for ourselves and for our salvation, but look to these saints, these noble and brave athletes, who have been given to us in place of torches, and amend our own life to their courage and patience, so that after we depart this life by their prayers we might be able to both see and embrace them and be assigned to their heavenly dwellings. May we attain all these blessings through the grace and loving kindness of our lord Jesus Christ, through whom and with whom be glory to the Father and the Holy Spirit for ever and ever. Amen.
هذه هي صفات انتصارات القديسين ... إن نضالهم وجهاداتهم تثير الإعجاب وتأسر القلب، فكم تتأثر القلوب بتذكار الأكاليل المخورة لثباتهم البطولي. بل إن آلامهم في الواقع لم تقف عند صنوف العذاب التي فصلناها سابقاً، ولم تضع هذه العذابات نهاية لنضالهم. بل إن شر المضطهدين قد هيأ لهم سيرة أطول وأكثر جهاداً. فمن ذا الذي كان يلهمهم بذلك؟ إنه الشيطان الذي كان يتاسر ويتصور أمل الغلبة على هؤلاء المجاهدين المكرمين، بمزيد من العذابات المؤلمة، والله لم يمنعه عن ذلك كيما يعلن للعالم لصورة أقوى جنون غير المؤمنين من ناحية، وكيما يهيئ للشهداء الفرصة ليضاعفوا أكاليلهم ويزيدوها لمعاناً من ناحية أخرى.
أنظروا أيوب، فإن الشيطان قد طلب من الله السماح بأن يضربه بالقروح ويصيبه بأدواء جسيمة، آملاً أن يزعزع هذه المجاهد الشجاع عن التقوى، بتراكم المصائب الثقيلة جداً عليه، والله قد وافق على الإلحاحات المعوجة لأشر الأرواح المظلمة، كيما يظهر عبده أكثر ضياء، هكذا كان نصيب الشهداء ..
وإذا كان الشيطان مثابراً على غيّه، كان يعد مجالاً جديداً فبعد أن شبع تماماً من دماء الشهداء، صار يخترع طرقاً جديدة للتعذيب، إذ أوقع عليهم أحكام موت مؤلم جداً بقدر ما هو بطيء أيضاً، هذا الموت البطيء هو أن يعملوا كل عمرهم دون تراخ في المحاجر والمناجم فيا للجنون المفرط جداً، وكيف يجسر على أن يتوقع نجاح هذا الاختراع بعد كل هذه البراهين الواضحة على شجاعة الشهداء التي لا تقهر؟ حينئذ رأينا بين الحيوانات المتوحشة أناساً صاروا زملاء الملائكة ومواطنين للسماء ومختارين لسكنى أورشليم العليا، حينئذ فاح في الصحراء عبير القداسة الذي لم تشهده قط المدن والبلدان ... لقد تحقق فيهم ذلك القول النبوي الذي يعلن التعليم: "ويكون نور القمر كنور الشمس ونور الشمس يكون سبعة أضعاف" (إش 30)، فهذا النور الفائق كان يبدو من نصيبهم، لأنه ليس شيء قط يوازي تألق النفس التي حُسبت أهلاً لأن تتألم من أجل يسوع المسيح، مهما كانت الشرور التي تأتي وتنصب عليها. فإن الإيمان بالنسبة لهؤلاء الشهداء المنفيين جعلهم يعاينون أمجاد السماء، ومكنهم من الإحساس بمشاركة صفوف الملائكة الذي هم مواطنو السماء. بل ماذا أقول؟ ماذا كانت حاجتهم للتفكير في الملائكة والسماء حيث أن يسوع رب الملائكة كان مجتمعاً معهم في الصحراء، ألم يعلن يسوع المسيح أنه سوف يكون حاضراً وسط أية ثلاثة أشخاص مجتمعين باسمه؟ فكم بالأولى كثيراً من المسيحيين ليسوا فقط مجتمعين باسمه بل ومتألمين من أجله بآلام إستشهاد لا نهاية لها؟ وهل يستطيع أحد أن يجهل أن الحياة في عمق المحاجر والمناجم هي أقسى ما يمكن أن يكون؟ وأنه ليس هناك مجرم واحد لا يُفضل أتعاب ألف موت على الشرور المصاحبة لهذه الأشغال الشاقة؟ لقد حكم إذن على قديسينا الشهداء بالعمل في المحاجر، هناك كان أناس أجل قدراً من الذهب يحفرون ويستخرجون الحديد من أعماق الأرض. كان هؤلاء الشهداء الأثمن من أثمن الكنوز يحفرون المناجم. فما أقسى هذه الحياة وما أصعب هذا لالوجود .. لقد كانت تتحقق في هؤلاء الشهداء الأوصاف التي إستعملها الرسول كيما يصور قديسي العصور الأولى: "لقد طافوا في جلود غنم وجلود معزي معتازين مكروبين مذكين وهم لم يكن العالم مستحقاً لهم" (عب 11).
على ذلك فإذ نحن نعلم أن جميع القديسين وأحباء الله، قديماً وحديثاً، قد نهجوا حياة قاسية متعبة اكتنفتها تجارب بلا عدد فلا نبحثنّ لأنفسنا عن حياة مريحة أو ناعمة أكثر منها، حياة تتخلها المسرات والتنعمات، بل لنقبل على حياة العمل والجهاد والأتعاب والآلام الكثيرة لأنه كما أن المجاهد لن يفوز قط بالجائزة إن كان يستسلم لحياة رخوة وكسولة، وكما أن الجندي لن يقتني قط وساماً فخرياً، والملاح لن يصل إلى الميناء، والفلاح لن يملأ حقله بالسنابل المتزاحمة، إن كان هؤلاء وأولئك لا يقبلون بلا ملل على الأعمال المتعبة، هكذا أيضاً لا يمكن لإنسان مسيحي حياته رخوة ومتكاسلة أن يظفر بملكوت السموات. فانظروا في كل مصالح هذا الدهر الحاضر إن كانت الأعمال لا تسبق المسرات. وإن كانت الأخطار لا تتقدم الأمان فضلاً عن إننا لا ننال إزاء أتعابنا سوى أجراً زهيداً قليلاً، فيا للحماقة ...إن ما يقدم لنا هو السماء وحياة سعيدة بلا نهاية، ومجد الملائكة بعينه، واقتناء هذه الخيرات التي لم تخطر على قلب بشر ولا يستطيع اللسان أن يعبر عنها، ونحن نريد أن نحصل عليها دون أن نهجر عاداتنا وحياتنا الرخوة الكسولة الناعمة؟ ولا نعتبرها جديرة بجهود مساوية لتلك التي نبذلها من أجل مصالح تافهة زمنية. إني أستحلفكم أن تتحرروا من هذه الآراء المضرة لأنفسكم والتي تهدد مصالحكم الأبدية، أنظروا إلى هؤلاء القديسين المجاهدين المتسلحين بالصبر والباذلين لأنفسهم واسترشدوا بأنوار هذه المصابيح التي تضيء لكم، ولنقوّم حياتنا ونكيفها على مثال سيرتهم، نهم لنحاكي صبرهم وبذلهم حتى تؤازرنا شفاعتهم فنحسب مستحقين عند خروجنا من هذاالعالم أن ننعم بمعاينتهم والوجود في المظال السماوية.
لينعم الله علينا بهذه النعمة، برحمة ربنا يسوع المسيح آمين.
Reference: The Cult of the Saints, by St. John Chrysostom, Popular Patristic Series, Saint Vladimir’s Seminary Press
الترجمة العربية ة من كتاب "آبائيات"، عظة "تطويب لشهداء مصر" للقديس يوحنا ذهبي الفم، ترجمة الأب الموقر كرنيليوس المقاري
لأنك متواضع تذكر سيدك لذهبى الفم
+ يقول القديس يوحنا ذهبي الفم:"في أي عمل صالح تقوم به لحساب إخوتك الأصاغر تذكر أن سيدك هو الذي عمله معهم أولاً. استمع وارتعب، لا تسر قط بتواضعك. عندما يطرأ بذهنك أنك معجب بنفسك لأنك متواضع تذكر سيدك. تذكر إلى أية درجة وضع نفسه، حينئذ لن تعجب بنفسك ولن تمدحها قط"
يوسف العجيب وعناية الله _ يوحنا ذهبي الفم
هكذا يوسف العجيب ابن يعقوب، فان مجده ومكافأته توقفت على الحسد والوشاية التي كان ضحيتها، وعلى حبسه وقيوده وسائر الآلام التي ألمت به. ولا شك في أن فضيلة العفة كانت عظيمة عنده. ولا شك، كذلك، في أن إنتصاره على تلك المرأة المصرية الغنية، وثباته أمام إلحاحها، في فتنتها وإغرائها، كانت فضيلة سامية جداً، ولكن جائزة آلامه حجبت جائزة عفته.
إن مكافأة يوسف العظمى إنما جاءته من مصائبه: من المخاطر التي تعرض لها من جراء رفضه، والفخاخ التي نصبت له، وجنون العاطفة الثائرة والعنف الذي أخذ به. أجل مكافأته إنما جاءته من حبسه ظلماً.
وإني لأراه في ذلك الوقت، وقت حبسه، مكللاً ببهاءٍ لا مثيل له أكثر ما كان عليه حين كان جالساً على عرش مصر يوزع المؤونة للشعوب في سني الجدب، وينقذهم من المجاعة، وحين كان ملجأ لكل الذين كادوا يهلكون جوعاً ! وأنه ليبدو أجمل في عيني، والقيود في رجليه، منه في كل بهاء ملابسه وفي أوج سلطانه! وإني لأراه أيضاً أحب إليّ يوم كان بغيضاً إلى أخوته، محاطاً بالأعداء في بيته، منه يوم كان أثيراً إلى أبيه مفضلاً ومدللاً عنده.
إنسان كان شاباً سليل أسرة شريفة، تربى إلى ذلك الوقت في بيت أبيه متمتعاً فيه بكل حريته، فإذا به يجد نفسه قد باعه أخوته، وسلموه إلى قوم غرباء لا يعرف لسانهم يختلفون عنه كل الاختلاف بطبائعهم وأخلاقهم، وهم أقرب إلى الوحوش منهم إلى البشر. ثم يرى نفسه بدون وطن ولا منزل، عبد يباع من بيت إلى بيت ! ينحط إلى أسفل دركات العبودية، وهو لم يعمل شيئاً يستحق عليه هذه الخاتمة. ولم تقف مصائبه عند هذا الحد، بل ان الإهانات تلاحقه يمسك بعضها ببعض. فأين هو من تلك الأحلام الحلوة العجيبة التي كانت قد كُشفت له قبلاً بأنه سيصير يوماً معبود أخوته! والتجار الذين اشتروه لم يحتفظوا به لأنفسهم، بل باعوه مرة ثانية إلى تجار آخرين قاذفين به هكذا إلى بربرية أخرى ... نراه في هذا البلد المصري العجيب الذي كان أهله يومئذ في حرب دائمة جنونية مع الإله الحقيقي، وبين تلك الأفواه الغاشمة والألسنة التي كانت تتلفظ دائماً بالتجديف.
ولكن له هنا وقفة ليستريح قليلاً. فإن الله الذي يرتب كل شيء بصلاحه سراً، قد أعطاه سيداً أفضل، وقَلَبَ الوحش المفترس الذي اشتراه إلى حمل.
على أن الاستراحة لم تكن طويلة. فها هو الله يهيء له ساحة جديدة لمعركة جديدة، ويكلفه القيام بدور بطولي جديد يقتضيه جهاداً ومشقة كبرى. ها هي ذي امرأة سيده تسمر في وجهه يوماً نظارت اثيمة فتفتتن بحسنه، وإذا شهوة صاخبة مجنونة تسيطر عليها، وإذا هي تنقلب من امرأة إلى لبوءة لتفترسه! تهيأ ليوسف عدو في ذلك البيت يختلف عن الأعداء الأولين. فلقد كان عدوه، في المرة الأولى، الكراهية التي أثارتاخوته عليه. وأما في هذه المرة فكان عدوه الحب الذي كان تلك المرأة وليَّةً له. وفي هذا النزال الجديد مع هذا العدو الجديد من الخطر ما يفوق خطر الأول، بمرتين وثلاثة وألف مرة.
وإذ علمت أنه تخطى الشرك المنصوب بوثبة واحدة، فلا تتصور أنه خرج من المعركة ظافراً بغير جهاد ومشقة. حقاً، أن تلك المعركة كلفته كثيراً من المشقة وكثيراً من العناء. وإذا أردنا أن نتبين صحة ما أقول فلنتصور كيف يكون الفتى في فجر الفتوة ونضارتها. وقد كان في الحقيقة في سن تكون فيها الطبيعة على أشد قدرتها. والشهوات تثور كأنها العواصف، وصوت العقل خافتٌ لا يرتفع. فالحكمة ليست للشباب على الغالب، والفضيلة ليست موضع اهتمام كبير عندهم. تلك المرحلة من العمر تثور فيها عواصف الأهواء الشديدة، ويضعف سلطان العقل كثيراً.
وكما أن يد الفرس كانت تمتد إلى كل ما تصل إليه لتحشو بها جوف الأتون البابلي لتزيد ناره ضراماً، وتهيء له بلا إنقطاع وقوداً جديداً، هكذا، لكي تغذي نار شهوتها كانت تلك الشقية تستعمل كل ما تصل إليه يدها: من سحر ريحها، ومسحوق الخدود، وكحل العينين، وغنج الصوت، ودلال المشية، وفتنة الحركات، وإغراء الشباب، وبعبارة واحدة كل ما من شأنه أن يستهوي الفتى ويجذبه ويغلبه.
وكالصياد الذي إذا أراد أن يوقع في شباكه حيواناً يُعجزه، يروح يستعمل كل فنه في الصيد من عدة ليحصل على بغيته، فهمت تلك المرأة التي كانت تعرف عفة يوسف أنها لكي تتمكن منه، يلزمها استعداد مدروس واستعمال كل فنها ومهارتها.
وليس هذا فحسب، بل كان عليها أن تسترق المكان والزمان الملائمين. فقد احترست جيداً أن لا تهاجمه إبان ثورة شهوتها لأول مرة، بل تربصت حتى تسنح ساعتها، وهي تحمل الشهوة وتغذيها بين ضلوعها، وتخاف من نجاة فريستها في مهاجمات ارتجالية وسابقة الآوان.
وها هي الساعة قد حضرت. فقد وجدته ذات يوم منهكاً في مشاغله الاعتيادية. وها هي تعمق حوله الحفرة. خَفَقَت فيها جوانح اللذة كما لو كانت قد امسكته في شباكها لا محالة. ثم أقبلت علبه ودِلفت نحوه، حتى إذا صارت إلى جانبه أمسكته. وهل كانت وحدها؟ كلاّ لأن سن الفتى وطبيعته كانا يحاربنا معها، وسلاحها كل ما يفتن ويغري. وها هي تتابع ما عزمت عليه! وها هي تحاول إرغامه بالقوة ! ويا لهول التجربة !
فأية نارٍ أتون يشبهها؟ شاب في أشد فورة الحياة فيه. عبدٌ غريب بعيد عن بني قومه، بعيد عن بلاده، سلعة تُباع وتُشترى، تتشبث به سيدته، وهي في أشد هياج شهوتها، امرأة في مثل ذلك الغنى، وفي مثل تلك القوة، وفي خلوة خفية عن الأنظار، يحس بنفسه بين ذراعيها تراوده عن نفسه إلى هذا الحد، ويدعى إلى مقاسمة مضجع سيدة البيت ! وهذا بعد كثير مما اصابه من نكد الطالع، وما ناله من الاضطهادات ! ونحن نعلم بكم من الاندفاع يتلقى الإنسان رخاء العيش، ونعمة الهدوء بعد الحرمان والسأم ! وبأي رغبة يقبل على اللهو والعبث والمجون بعد أن عانى الحبس والتضييق !
وما كان الأمر هكذا مع يوسف الذي ثبت غير متزعزع أمام كل شيء. ولست أخشى من أن أقول أن ذلك السرير كن أخطر عليه من الأتون البابلي على الفتية الثلاثة، ومن جب الأسد على دانيال، ومن جوف الحوت البحري على يونان، لأن قضية أولئك لم تكن إلا قضية خشارة الجسد، وأما قضية يوسف فكانت خسارة النفس، والموت الأبدي، والحكم الذي لا مفر منه.
ولنُضِف إلى ذلك، احتيالات المرأة وتملقها وتلطفها ودعابها من كل نوع. تلك نار آكلة لا تقتحم الجسد بل النفس ! تلك نار وصفها سليمان الحكيم إذ قال في كلامه عن خطر الزنا الذي ينجم عن الأحاديث الخطرة. هل يمكن حمل النار في الثياب من غير أن تحترق، وهل يستطاع المشي على الجمر من غير أن تحترق القدمان؟ وبأكثر من ذلك لا يستطاع الاقتراب من المرأة من غير الوقوع في الزنا (أم 6). فكما أنه يستحيل على المرء أن يقترب من النار من غير أن يحترق، كذلك يستحيل عليه أن يعاشر المرأة من غير أن يعثر.
والخطر الذي أحدق بيوسف كان أكبر بكثير. لم يكن عليه أن لا يقترب منها، لأنها كانت هناك وأمسكته بذراعيها وضمته إليها جسداً إلى جسد. لقد جاءته الفرصة لكي يخرج من تلك التعاسة وينجو من تلك الاضطهادات ! وكان طالما انتظر بشوق وبفارغ صبر النجاة من ضيقه، واستنشاق الراحة والطمأنينة ! ولكنه مع كل ذلك لبث ثابتاً متماسكاً ساخراً من الشباك التي ألقيت له، وساخراً من قوة الوحش الهائج ضده ومن شراسته، ومستخفاً بلمسات اليد ونعومتها، ولَهث الأنفاس وحرارتها، وحدة النظرات وسطوتها، ونداء رائحة الطيوب والمساحيق والكحل والذهب، هازئاً من إغراء الثياب، ومن فتنة الحركات والكلمات، وروعة الجمال، وعلى الرغم من خلوة المكان وكتمان المعرفة، وعلى الرغم مما يجذبه من دوافع الغنى والقوة، وعلى الرغم من كل ما يحارب ضده: السن والطبيعة والعبودية والغربة، ومع كل ذلك فقد غلب كل شيء!
ولست أتردد في اعتبار هذه التجربة أعظم بكثير من كل التجارب التي تقدمتها إلى ذلك الوقت. فهي أعظم من حسد أخوته وكراهية من كانت تربطهم به رابطة الدم، وأشد عليه من وضاعة بيعه واسترقاقه لأسياد أجانب، ومن سفره وأقامته في أرض بعيدة، وسجنه وقيوده، وكل الآلام التي تحملها، لأنه لم يصادفه في كل ما حدث له موقف فيه العار والخطر الكبير مثل هذا الموقف.
وها هو الصراع ينتهي، ونسيمٌ عطر يصافح المنتصر! ذلك نسيم النعمة الإلهية وطيب عفة يوسف! ومثل الفتية الثلاثة خرج من الأتون من دون أن يعلق بأذياله رائحة أو أثر النار التي مر فيها. ولقد صار يوسف المثل الأعلى للطهارة، ومثل الألماس صلابة ونقاوة وجمالاً !
ولكن تُرى ما هي الفائدة التي حصل عليها من انتصاره؟ وما هي جوائز المنتصر؟ اضطهادات جديدة، وحُفَرٌ تحفر أمام قدميه، والموت النازل فوق رأسه .. أخطار جديدة، ووشايات جديدة، وحقد أشد من الأحقاد التي عرفها ! فستعمد تلك الشقية إلى الانتقام لشهوتها المذبوحة بكل ما يخترعه لها الغضب من وسائل. وجنون الغضب يولد جنوناً آخر، وسيتبع فسق الشهوات مظالمٌ الانتقام، وسيتبع الزنى قتلُ الفتى.
وها هي تصطنع الغضب وتقيم محكمة جائرة، وتحتكم إلى حكم واثقة منه لأنه زوجها وسيد عبدها الغريب، وتقذف إليه عبدها بجريمة لم يكن عليها من شاهد. وهذا المشتكى عليه لا يُقبل حضوره في المحكمة. وإنها تستطيع شكايته بكل هدوء وإرتياح، وعندها كل وسائل الإقناع من حماقتها، ومداراة القاضي وثبوت شهادتها التي لا ترد، وضعف العبد المشتكى عليه. واذن فقد اخبرت القاضي بعكس ما حدث تماماً، وأقنعته بسهولة، وأملت عليه ما أرادت، وإذا البريء يُحكم عليه بطائلة الجريمة، بالحبس العاجل فيوقف ويقيَّد!
وهكذا فقد حُكم على الفتى الكريم من دون أن يرى القاضي والأدهى من كل ذلك انه يحكم عليه بأنه زانٍ أراد أن يدنس مضجع سيده، وتجاسر على امرأته الشرعية، كما لو كان مأخوذا بالجرم المشهود، وكما لو ثبتت عليه كل الدلائل والبينات!
كل هذا، وما من شيء عكر صفاء تلك النفس العجيبة. فلا نسمعه يقول مثلاً: "يا لتعس حظي ! أفي هذا تحققت احلام الرؤى التي رأيتها؟ أهذه هي مكافأة عفتي وطهارتي؟ محكمة ظالمة وحكم جائر قائم على سبب مخزٍ ومهين ! فلقد طُردت من بيت أبي كأني فاسق، والآن أساق إلى السجن كأنني زان ومدنس عرض امرأة. وكل الناس عليَّ. وها هم أخوتي الذين، بمقتضى أحلامي، كان يجب أن يعبدوني، يعيشون أحراراً وبدون خوف، وينعمون بالسعادة في بلادهم وفي بيت أبي، وأنا الذي كان يجب أن أسود عليهم موجود في السجن بين اللصوص وقطاع الطرق. وبعد أن طردت من بلدي لم أجد أيها نهاية لآلامي وأحزاني. وها أنا قد وجدت من جديد في الأرض الغريبة حفراً في سبيلي وخناجر مسلولة ومشهورة على صدري ! والمرأة التي أرادت أن توقعني في الزني شكتني ظلماً، وهي التي كانت تستوجب، على هاتين الجريمتين، قطع رأيها، ترقص الآن في نشوة من الفرح كأنها فازت بالغنائم الكثيرة، وكأنها تحمل فوق جبينها اكليل انتصارها، على حين يُحكم عليَّ بأشد العقوبات ولم أفعل شراً.
لا. أنه لا يقول شيئاً من هذا، ولا يخطر له على بال. ولكنه الجندي الحقيقي الذي يتقدم في مجد غلبته. كانت نفسه سعيدة هادئة لا يحمل حقداً لا لإخوته ولا لتلك الزانية.
وبرهان ذلك في المحادثة التي جرت بينه وبين أحد الذين كانوا معه في السجن. فإذا كان أبعد من أن يسحقه الحزن، كان يجرب أن يبدد أحزان الآخرين. فلما رأى ذات يوم رفاقه في الأسر غارقين في الهموم والمخاوف والاضطرابات، اقترب منهم حالاً لكي يسألهم عن السبب، وحين علم أن اضطرابهم ناتج عن أحلامهم فسَّرها لهم.
ثم أنه حين طلب إلى واحد منهم أن يذكره لدى الملك لعله يعتقه أكتفى بأن يقول: "لقد خُطفتُ وأُتي به من بلاد العبرانيين وأودعت هذا الحبس من دون أن أقترف ذنباً". وما بالك يا يوسف لا تتكلم بشيء عن تلك الفاجرة الزانية وعن حسد الأخوة وسلوكهم المشين؟ لماذا لا تتكلم عن دعارة سيدتك وعن مراودتها لك عن نفسك وفجورها واحتيالها وكيدها ووشايتها، وعن الحكم الجائر، والقاضي الظالم والتهمة الباطلة؟ لماذا تسكت عن كل هذا أو تخبئه؟
وكأني به يُجيب ويقول: "لأنني لا أعرف الحقد. ولأني أعلم أن كل هذه التجارب هي أكاليل ظفر وجوائز استحقاق". يا لها نفساً متحررة من الأهواء! يا لها نفساً تسمو على الانتقام، والحقد لا يعرف إليها سبيلاً! أما رأيناه يبدي نحو مضطهديه اشفاقاً بدل الحقد؟ ولكي لا يسمي اختوته، ولا تلك الفاسقة الشريرة ألم يكتف بأن يقول: "أُتي بي من أرض العبرانيين وأودعت هذا السجن من غير أن أقترف ذنباً"، غير معيِّن شخصاً، ومن غير أن يقول كلمة عن البئر التي رموه فيها ولا عن الاسماعيليين ولا عن شيء من قصته الطويلة؟
وبعد هذا إلا ترى مصيبة جديدة تضاف إلى مصائبه لا تقلُّ عنها هي اهماله واطالة سجنه؟ كيف لا والرجل الذي طالما واساه وعزاه في سجنه، وتنبأ به عن إطلاق سراحه، ما أن أُعيد إلى وظيفته القديمة حتى نسي يوسف ولم يتذكر طلب ذلك البريء. وحين كان هذا ينعم في بلاط فرعون بأيام سعيدة، كان الفتى القديس يعيش في السجن وهو صاحب الفضيلة التي تكسف الشمس وتتجاوز بهاء رونقها، ولم يكن من أحد يذكره أمام الملك.
ان الله تعالى كان يريد أن تضفر له أكاليل جديدة وأن يهيء له أجمل المكافآت. ومن أجل هذا كان يطيل طريق تجاربه. فقد كان يسمح بإلقائه في السجن مدة طويلة من غير أن يتخلى عنه. وكان يسمح بأن يستعمل أعداؤه كل قواهم ضده حتى يظل الفتى من جهة ثابتاً كالبطل الصنديد، ومن الجهة الثانية حتى يُظهر أنه يصوته عن الموت من هجمات الأعداء. فقد تركهم يلقونه في البئر، ويصبغون ثوبه بالدم ولكنه لم يسمح أن يقتلوه. نعم ان هذا كان بمشورة بعض إخوته، ولكن ما من شيء يتم بدون سماح العناية الإلهية. وكذلك القول في خبره مع المرأة المصرية. فكيف أمكن لرجل ثائر غاضب - ككل المصريين - بلغ به الغضب أقصى حد أمام رجل يحسبه زانياً ومدنساً عرض امرأته، كيف أمكن له أن يصبر عن قتله أو طرحه في النار في حين كانت امرأته واقفة أمامه غاضبة ناقمة ترتجف من الإهانة التي زعمت أن الرجل ألحقها بها، تريه ثيابها الممزقة وتمضي في ولولتها ونحيبها كيما تضاعف قصاصه !
لقد نجا من حكم الموت. ولماذا؟ أليس من البديهي أن نقول أن الذي لَجَم الأسود وحوّل لهيب الأتون إلى ندى، هو الذي لجم عُتُوّ هذا الطاغية، وأطفأ حدة نار غضبه، وحمله على تعديل العقوبة؟
وهذا ما حدث له أيضاً في السجن. فإن الله سمح بتقييده وطرحه في السجن بين المجرمين ولكنه منع عنه القسوة من جانب القائم على السجن، ولا يخفى عليك كيف يكون السجان. ولكنه كان مع يوسف لطيفاً رفيقا. فلم يكتف بأن يعفيه من الأشغال الشاقة، ولكنه أقامه أيضاً ناظراً على المساجين الآخرين. تصرف هكذا مع يوسف مع علمه بسبب زناه وإجرامه الخطير إلى بيت من أعظم البيوتات قدراً. وهكذا فإن الله كان يسمح بمصائبه ولم يكن ليتخلى عن عبده وكان يحفظه في النضال.
بددي أحزانك واحمدي الله دائماً كما فعلت وتفعلين.
واشكريه على كل المصائب والتجارب التي يرسلها لك.
وهكذا تحصلين على أعظم الاستحقاقات،
وتُنزلين بالشيطان ضربة قاضية،
وهكذا تغمرينني بالتعزية والمواساة،
وهكذا أيضاً تنجلي سماء نفسك وتنعمين بالطمأنينة التامة.
فلا تحزني إذن، وتحرري من هذه الأوهام،
واكتبي لي في هذا الشأن لكي تمنحيني الفرح العظيم في منفاي البعيد.
المرجع: الرسالة التاسعة، من القديس يوحنا ذهبي الفم إلى الشماسة أومبياس، منشورات النور، ترجمة الأسقف استفانوس حداد.
إن مكافأة يوسف العظمى إنما جاءته من مصائبه: من المخاطر التي تعرض لها من جراء رفضه، والفخاخ التي نصبت له، وجنون العاطفة الثائرة والعنف الذي أخذ به. أجل مكافأته إنما جاءته من حبسه ظلماً.
وإني لأراه في ذلك الوقت، وقت حبسه، مكللاً ببهاءٍ لا مثيل له أكثر ما كان عليه حين كان جالساً على عرش مصر يوزع المؤونة للشعوب في سني الجدب، وينقذهم من المجاعة، وحين كان ملجأ لكل الذين كادوا يهلكون جوعاً ! وأنه ليبدو أجمل في عيني، والقيود في رجليه، منه في كل بهاء ملابسه وفي أوج سلطانه! وإني لأراه أيضاً أحب إليّ يوم كان بغيضاً إلى أخوته، محاطاً بالأعداء في بيته، منه يوم كان أثيراً إلى أبيه مفضلاً ومدللاً عنده.
إنسان كان شاباً سليل أسرة شريفة، تربى إلى ذلك الوقت في بيت أبيه متمتعاً فيه بكل حريته، فإذا به يجد نفسه قد باعه أخوته، وسلموه إلى قوم غرباء لا يعرف لسانهم يختلفون عنه كل الاختلاف بطبائعهم وأخلاقهم، وهم أقرب إلى الوحوش منهم إلى البشر. ثم يرى نفسه بدون وطن ولا منزل، عبد يباع من بيت إلى بيت ! ينحط إلى أسفل دركات العبودية، وهو لم يعمل شيئاً يستحق عليه هذه الخاتمة. ولم تقف مصائبه عند هذا الحد، بل ان الإهانات تلاحقه يمسك بعضها ببعض. فأين هو من تلك الأحلام الحلوة العجيبة التي كانت قد كُشفت له قبلاً بأنه سيصير يوماً معبود أخوته! والتجار الذين اشتروه لم يحتفظوا به لأنفسهم، بل باعوه مرة ثانية إلى تجار آخرين قاذفين به هكذا إلى بربرية أخرى ... نراه في هذا البلد المصري العجيب الذي كان أهله يومئذ في حرب دائمة جنونية مع الإله الحقيقي، وبين تلك الأفواه الغاشمة والألسنة التي كانت تتلفظ دائماً بالتجديف.
ولكن له هنا وقفة ليستريح قليلاً. فإن الله الذي يرتب كل شيء بصلاحه سراً، قد أعطاه سيداً أفضل، وقَلَبَ الوحش المفترس الذي اشتراه إلى حمل.
على أن الاستراحة لم تكن طويلة. فها هو الله يهيء له ساحة جديدة لمعركة جديدة، ويكلفه القيام بدور بطولي جديد يقتضيه جهاداً ومشقة كبرى. ها هي ذي امرأة سيده تسمر في وجهه يوماً نظارت اثيمة فتفتتن بحسنه، وإذا شهوة صاخبة مجنونة تسيطر عليها، وإذا هي تنقلب من امرأة إلى لبوءة لتفترسه! تهيأ ليوسف عدو في ذلك البيت يختلف عن الأعداء الأولين. فلقد كان عدوه، في المرة الأولى، الكراهية التي أثارتاخوته عليه. وأما في هذه المرة فكان عدوه الحب الذي كان تلك المرأة وليَّةً له. وفي هذا النزال الجديد مع هذا العدو الجديد من الخطر ما يفوق خطر الأول، بمرتين وثلاثة وألف مرة.
وإذ علمت أنه تخطى الشرك المنصوب بوثبة واحدة، فلا تتصور أنه خرج من المعركة ظافراً بغير جهاد ومشقة. حقاً، أن تلك المعركة كلفته كثيراً من المشقة وكثيراً من العناء. وإذا أردنا أن نتبين صحة ما أقول فلنتصور كيف يكون الفتى في فجر الفتوة ونضارتها. وقد كان في الحقيقة في سن تكون فيها الطبيعة على أشد قدرتها. والشهوات تثور كأنها العواصف، وصوت العقل خافتٌ لا يرتفع. فالحكمة ليست للشباب على الغالب، والفضيلة ليست موضع اهتمام كبير عندهم. تلك المرحلة من العمر تثور فيها عواصف الأهواء الشديدة، ويضعف سلطان العقل كثيراً.
وكما أن يد الفرس كانت تمتد إلى كل ما تصل إليه لتحشو بها جوف الأتون البابلي لتزيد ناره ضراماً، وتهيء له بلا إنقطاع وقوداً جديداً، هكذا، لكي تغذي نار شهوتها كانت تلك الشقية تستعمل كل ما تصل إليه يدها: من سحر ريحها، ومسحوق الخدود، وكحل العينين، وغنج الصوت، ودلال المشية، وفتنة الحركات، وإغراء الشباب، وبعبارة واحدة كل ما من شأنه أن يستهوي الفتى ويجذبه ويغلبه.
وكالصياد الذي إذا أراد أن يوقع في شباكه حيواناً يُعجزه، يروح يستعمل كل فنه في الصيد من عدة ليحصل على بغيته، فهمت تلك المرأة التي كانت تعرف عفة يوسف أنها لكي تتمكن منه، يلزمها استعداد مدروس واستعمال كل فنها ومهارتها.
وليس هذا فحسب، بل كان عليها أن تسترق المكان والزمان الملائمين. فقد احترست جيداً أن لا تهاجمه إبان ثورة شهوتها لأول مرة، بل تربصت حتى تسنح ساعتها، وهي تحمل الشهوة وتغذيها بين ضلوعها، وتخاف من نجاة فريستها في مهاجمات ارتجالية وسابقة الآوان.
وها هي الساعة قد حضرت. فقد وجدته ذات يوم منهكاً في مشاغله الاعتيادية. وها هي تعمق حوله الحفرة. خَفَقَت فيها جوانح اللذة كما لو كانت قد امسكته في شباكها لا محالة. ثم أقبلت علبه ودِلفت نحوه، حتى إذا صارت إلى جانبه أمسكته. وهل كانت وحدها؟ كلاّ لأن سن الفتى وطبيعته كانا يحاربنا معها، وسلاحها كل ما يفتن ويغري. وها هي تتابع ما عزمت عليه! وها هي تحاول إرغامه بالقوة ! ويا لهول التجربة !
فأية نارٍ أتون يشبهها؟ شاب في أشد فورة الحياة فيه. عبدٌ غريب بعيد عن بني قومه، بعيد عن بلاده، سلعة تُباع وتُشترى، تتشبث به سيدته، وهي في أشد هياج شهوتها، امرأة في مثل ذلك الغنى، وفي مثل تلك القوة، وفي خلوة خفية عن الأنظار، يحس بنفسه بين ذراعيها تراوده عن نفسه إلى هذا الحد، ويدعى إلى مقاسمة مضجع سيدة البيت ! وهذا بعد كثير مما اصابه من نكد الطالع، وما ناله من الاضطهادات ! ونحن نعلم بكم من الاندفاع يتلقى الإنسان رخاء العيش، ونعمة الهدوء بعد الحرمان والسأم ! وبأي رغبة يقبل على اللهو والعبث والمجون بعد أن عانى الحبس والتضييق !
وما كان الأمر هكذا مع يوسف الذي ثبت غير متزعزع أمام كل شيء. ولست أخشى من أن أقول أن ذلك السرير كن أخطر عليه من الأتون البابلي على الفتية الثلاثة، ومن جب الأسد على دانيال، ومن جوف الحوت البحري على يونان، لأن قضية أولئك لم تكن إلا قضية خشارة الجسد، وأما قضية يوسف فكانت خسارة النفس، والموت الأبدي، والحكم الذي لا مفر منه.
ولنُضِف إلى ذلك، احتيالات المرأة وتملقها وتلطفها ودعابها من كل نوع. تلك نار آكلة لا تقتحم الجسد بل النفس ! تلك نار وصفها سليمان الحكيم إذ قال في كلامه عن خطر الزنا الذي ينجم عن الأحاديث الخطرة. هل يمكن حمل النار في الثياب من غير أن تحترق، وهل يستطاع المشي على الجمر من غير أن تحترق القدمان؟ وبأكثر من ذلك لا يستطاع الاقتراب من المرأة من غير الوقوع في الزنا (أم 6). فكما أنه يستحيل على المرء أن يقترب من النار من غير أن يحترق، كذلك يستحيل عليه أن يعاشر المرأة من غير أن يعثر.
والخطر الذي أحدق بيوسف كان أكبر بكثير. لم يكن عليه أن لا يقترب منها، لأنها كانت هناك وأمسكته بذراعيها وضمته إليها جسداً إلى جسد. لقد جاءته الفرصة لكي يخرج من تلك التعاسة وينجو من تلك الاضطهادات ! وكان طالما انتظر بشوق وبفارغ صبر النجاة من ضيقه، واستنشاق الراحة والطمأنينة ! ولكنه مع كل ذلك لبث ثابتاً متماسكاً ساخراً من الشباك التي ألقيت له، وساخراً من قوة الوحش الهائج ضده ومن شراسته، ومستخفاً بلمسات اليد ونعومتها، ولَهث الأنفاس وحرارتها، وحدة النظرات وسطوتها، ونداء رائحة الطيوب والمساحيق والكحل والذهب، هازئاً من إغراء الثياب، ومن فتنة الحركات والكلمات، وروعة الجمال، وعلى الرغم من خلوة المكان وكتمان المعرفة، وعلى الرغم مما يجذبه من دوافع الغنى والقوة، وعلى الرغم من كل ما يحارب ضده: السن والطبيعة والعبودية والغربة، ومع كل ذلك فقد غلب كل شيء!
ولست أتردد في اعتبار هذه التجربة أعظم بكثير من كل التجارب التي تقدمتها إلى ذلك الوقت. فهي أعظم من حسد أخوته وكراهية من كانت تربطهم به رابطة الدم، وأشد عليه من وضاعة بيعه واسترقاقه لأسياد أجانب، ومن سفره وأقامته في أرض بعيدة، وسجنه وقيوده، وكل الآلام التي تحملها، لأنه لم يصادفه في كل ما حدث له موقف فيه العار والخطر الكبير مثل هذا الموقف.
وها هو الصراع ينتهي، ونسيمٌ عطر يصافح المنتصر! ذلك نسيم النعمة الإلهية وطيب عفة يوسف! ومثل الفتية الثلاثة خرج من الأتون من دون أن يعلق بأذياله رائحة أو أثر النار التي مر فيها. ولقد صار يوسف المثل الأعلى للطهارة، ومثل الألماس صلابة ونقاوة وجمالاً !
ولكن تُرى ما هي الفائدة التي حصل عليها من انتصاره؟ وما هي جوائز المنتصر؟ اضطهادات جديدة، وحُفَرٌ تحفر أمام قدميه، والموت النازل فوق رأسه .. أخطار جديدة، ووشايات جديدة، وحقد أشد من الأحقاد التي عرفها ! فستعمد تلك الشقية إلى الانتقام لشهوتها المذبوحة بكل ما يخترعه لها الغضب من وسائل. وجنون الغضب يولد جنوناً آخر، وسيتبع فسق الشهوات مظالمٌ الانتقام، وسيتبع الزنى قتلُ الفتى.
وها هي تصطنع الغضب وتقيم محكمة جائرة، وتحتكم إلى حكم واثقة منه لأنه زوجها وسيد عبدها الغريب، وتقذف إليه عبدها بجريمة لم يكن عليها من شاهد. وهذا المشتكى عليه لا يُقبل حضوره في المحكمة. وإنها تستطيع شكايته بكل هدوء وإرتياح، وعندها كل وسائل الإقناع من حماقتها، ومداراة القاضي وثبوت شهادتها التي لا ترد، وضعف العبد المشتكى عليه. واذن فقد اخبرت القاضي بعكس ما حدث تماماً، وأقنعته بسهولة، وأملت عليه ما أرادت، وإذا البريء يُحكم عليه بطائلة الجريمة، بالحبس العاجل فيوقف ويقيَّد!
وهكذا فقد حُكم على الفتى الكريم من دون أن يرى القاضي والأدهى من كل ذلك انه يحكم عليه بأنه زانٍ أراد أن يدنس مضجع سيده، وتجاسر على امرأته الشرعية، كما لو كان مأخوذا بالجرم المشهود، وكما لو ثبتت عليه كل الدلائل والبينات!
كل هذا، وما من شيء عكر صفاء تلك النفس العجيبة. فلا نسمعه يقول مثلاً: "يا لتعس حظي ! أفي هذا تحققت احلام الرؤى التي رأيتها؟ أهذه هي مكافأة عفتي وطهارتي؟ محكمة ظالمة وحكم جائر قائم على سبب مخزٍ ومهين ! فلقد طُردت من بيت أبي كأني فاسق، والآن أساق إلى السجن كأنني زان ومدنس عرض امرأة. وكل الناس عليَّ. وها هم أخوتي الذين، بمقتضى أحلامي، كان يجب أن يعبدوني، يعيشون أحراراً وبدون خوف، وينعمون بالسعادة في بلادهم وفي بيت أبي، وأنا الذي كان يجب أن أسود عليهم موجود في السجن بين اللصوص وقطاع الطرق. وبعد أن طردت من بلدي لم أجد أيها نهاية لآلامي وأحزاني. وها أنا قد وجدت من جديد في الأرض الغريبة حفراً في سبيلي وخناجر مسلولة ومشهورة على صدري ! والمرأة التي أرادت أن توقعني في الزني شكتني ظلماً، وهي التي كانت تستوجب، على هاتين الجريمتين، قطع رأيها، ترقص الآن في نشوة من الفرح كأنها فازت بالغنائم الكثيرة، وكأنها تحمل فوق جبينها اكليل انتصارها، على حين يُحكم عليَّ بأشد العقوبات ولم أفعل شراً.
لا. أنه لا يقول شيئاً من هذا، ولا يخطر له على بال. ولكنه الجندي الحقيقي الذي يتقدم في مجد غلبته. كانت نفسه سعيدة هادئة لا يحمل حقداً لا لإخوته ولا لتلك الزانية.
وبرهان ذلك في المحادثة التي جرت بينه وبين أحد الذين كانوا معه في السجن. فإذا كان أبعد من أن يسحقه الحزن، كان يجرب أن يبدد أحزان الآخرين. فلما رأى ذات يوم رفاقه في الأسر غارقين في الهموم والمخاوف والاضطرابات، اقترب منهم حالاً لكي يسألهم عن السبب، وحين علم أن اضطرابهم ناتج عن أحلامهم فسَّرها لهم.
ثم أنه حين طلب إلى واحد منهم أن يذكره لدى الملك لعله يعتقه أكتفى بأن يقول: "لقد خُطفتُ وأُتي به من بلاد العبرانيين وأودعت هذا الحبس من دون أن أقترف ذنباً". وما بالك يا يوسف لا تتكلم بشيء عن تلك الفاجرة الزانية وعن حسد الأخوة وسلوكهم المشين؟ لماذا لا تتكلم عن دعارة سيدتك وعن مراودتها لك عن نفسك وفجورها واحتيالها وكيدها ووشايتها، وعن الحكم الجائر، والقاضي الظالم والتهمة الباطلة؟ لماذا تسكت عن كل هذا أو تخبئه؟
وكأني به يُجيب ويقول: "لأنني لا أعرف الحقد. ولأني أعلم أن كل هذه التجارب هي أكاليل ظفر وجوائز استحقاق". يا لها نفساً متحررة من الأهواء! يا لها نفساً تسمو على الانتقام، والحقد لا يعرف إليها سبيلاً! أما رأيناه يبدي نحو مضطهديه اشفاقاً بدل الحقد؟ ولكي لا يسمي اختوته، ولا تلك الفاسقة الشريرة ألم يكتف بأن يقول: "أُتي بي من أرض العبرانيين وأودعت هذا السجن من غير أن أقترف ذنباً"، غير معيِّن شخصاً، ومن غير أن يقول كلمة عن البئر التي رموه فيها ولا عن الاسماعيليين ولا عن شيء من قصته الطويلة؟
وبعد هذا إلا ترى مصيبة جديدة تضاف إلى مصائبه لا تقلُّ عنها هي اهماله واطالة سجنه؟ كيف لا والرجل الذي طالما واساه وعزاه في سجنه، وتنبأ به عن إطلاق سراحه، ما أن أُعيد إلى وظيفته القديمة حتى نسي يوسف ولم يتذكر طلب ذلك البريء. وحين كان هذا ينعم في بلاط فرعون بأيام سعيدة، كان الفتى القديس يعيش في السجن وهو صاحب الفضيلة التي تكسف الشمس وتتجاوز بهاء رونقها، ولم يكن من أحد يذكره أمام الملك.
ان الله تعالى كان يريد أن تضفر له أكاليل جديدة وأن يهيء له أجمل المكافآت. ومن أجل هذا كان يطيل طريق تجاربه. فقد كان يسمح بإلقائه في السجن مدة طويلة من غير أن يتخلى عنه. وكان يسمح بأن يستعمل أعداؤه كل قواهم ضده حتى يظل الفتى من جهة ثابتاً كالبطل الصنديد، ومن الجهة الثانية حتى يُظهر أنه يصوته عن الموت من هجمات الأعداء. فقد تركهم يلقونه في البئر، ويصبغون ثوبه بالدم ولكنه لم يسمح أن يقتلوه. نعم ان هذا كان بمشورة بعض إخوته، ولكن ما من شيء يتم بدون سماح العناية الإلهية. وكذلك القول في خبره مع المرأة المصرية. فكيف أمكن لرجل ثائر غاضب - ككل المصريين - بلغ به الغضب أقصى حد أمام رجل يحسبه زانياً ومدنساً عرض امرأته، كيف أمكن له أن يصبر عن قتله أو طرحه في النار في حين كانت امرأته واقفة أمامه غاضبة ناقمة ترتجف من الإهانة التي زعمت أن الرجل ألحقها بها، تريه ثيابها الممزقة وتمضي في ولولتها ونحيبها كيما تضاعف قصاصه !
لقد نجا من حكم الموت. ولماذا؟ أليس من البديهي أن نقول أن الذي لَجَم الأسود وحوّل لهيب الأتون إلى ندى، هو الذي لجم عُتُوّ هذا الطاغية، وأطفأ حدة نار غضبه، وحمله على تعديل العقوبة؟
وهذا ما حدث له أيضاً في السجن. فإن الله سمح بتقييده وطرحه في السجن بين المجرمين ولكنه منع عنه القسوة من جانب القائم على السجن، ولا يخفى عليك كيف يكون السجان. ولكنه كان مع يوسف لطيفاً رفيقا. فلم يكتف بأن يعفيه من الأشغال الشاقة، ولكنه أقامه أيضاً ناظراً على المساجين الآخرين. تصرف هكذا مع يوسف مع علمه بسبب زناه وإجرامه الخطير إلى بيت من أعظم البيوتات قدراً. وهكذا فإن الله كان يسمح بمصائبه ولم يكن ليتخلى عن عبده وكان يحفظه في النضال.
بددي أحزانك واحمدي الله دائماً كما فعلت وتفعلين.
واشكريه على كل المصائب والتجارب التي يرسلها لك.
وهكذا تحصلين على أعظم الاستحقاقات،
وتُنزلين بالشيطان ضربة قاضية،
وهكذا تغمرينني بالتعزية والمواساة،
وهكذا أيضاً تنجلي سماء نفسك وتنعمين بالطمأنينة التامة.
فلا تحزني إذن، وتحرري من هذه الأوهام،
واكتبي لي في هذا الشأن لكي تمنحيني الفرح العظيم في منفاي البعيد.
المرجع: الرسالة التاسعة، من القديس يوحنا ذهبي الفم إلى الشماسة أومبياس، منشورات النور، ترجمة الأسقف استفانوس حداد.
الفرح الابدى - القديس يوحنا الاسيوطى
كل الأمور المُفرحة للإنسان وقتية . . أمَّاالــذي يفــرح باللَّـه ففرحـه أبـدي .
القديس يوحنا الأسيوطى
الأمانة في القليل _ كيرلس الإسكندري
الأمانة في القليل
كيرلس الإسكندري
" اَلأَمِينُ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ وَالظَّالِمُ فِي الْقَلِيلِ ظَالِمٌ أَيْضًا فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟. وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا هُوَ لِلْغَيْرِ فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا هُوَ لَكُمْ؟. لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأنهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ ". (لو 16)
كان المسيح آنذاك يُعلِّم الأغنياء أن يشعروا ببهجة خاصة في إظهار الشفقة والعطف نحو الفقراء، وفى مد يدّ العون لكل من هم في احتياج، وهكذا يكنزون لهم كنوزًا في السماء، ويتفكرون مقدمًا في الغنى المُذخر لهم، لأنه قال: " اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم حتى إذا فنيتم يقبلونكم في المظال الأبدية" (لو 9:16). لكن إذ هو إله بالطبيعة، فهو يعرف جيدًا كسل الذهن البشرّى من جهة كل عمل جاد وصالح. ولم يغب عن معرفته، أن البشر في طمعهم في المال والثروة يسلِّمون ذهنهم لحب الربح، وإذ تتسلّط عليهم هذه الشهوة، فإنهم يصيرون قساة القلوب ولا يبدون مشاركة وجدانية في الألم، ولا يظهرون أي شفقة أيًّا كانت للفقراء رغم أنهم قد كدّسوا ثروات كثيرة في خزائنهم. لذلك فأولئك الذين يتفكرون هكذا ليس لهم نصيب في هبات الله الروحية، وهذا ما يظهره الرب بأمثلة واضحة جدًّا إذ يقول: " الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظالم في القليل ظالم أيضًا في الكثير ".
يا رب اشرح لنا المعنى، وافتح عين قلبنا. لذلك أنصتوا إليه بينما هو يشرح بوضوح ودقة ما قاله.
"إن لم تكونوا أمناء في مال الظلم، فمن يأتمنكم على الحق؟" (لو 11:16)،
فالقليل إذن هو مال الظلم، أي الثروة الدنيوية التي جُمعت في الغالب بالابتزاز والطمع.
أما مَنْ يعرفون كيف يعيشون بالتقوى، ويعطشون إلى الرجاء المكنوز لهم، ويسحبون ذهنهم من الأرضيات، ويفكّرون بالأحرى في الأمور التي فوق، فإنهم يزدرون تمامًا بالغنى الأرضي، لأنه لا يمنح شيئًا سوى الملذات والفجور والشهوات الجسدانية الوضيعة، والأبهة التي لا تنفع، بل هي أبهة مؤقتة وباطلة وهكذا يعلّمنا أحد الرسل الأطهار قائلاً: " لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة" (1يو 16:2).
لكن مثل هذه الأشياء هي لا شيء بالمّرة لمن يحيون حياة رزينة وتقيّة، لأنها أشياء تافهة، ومؤقتة، ومملوءة بالنجاسة وتؤدى إلى النار والدينونة، ونادرًا ما تستمر إلى نهاية حياة الجسد، وحتى إن استمرت، فإنها تزول على غير توقع عندما يحّل أي خطر بأولئك الذين يمتلكونها. لذلك يوبخ تلميذ المسيح الأغنياء بقوله: " هلّم الآن أيها الأغنياء ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ وثيابكم قد أكلها العث ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدأهما يكون شهادة عليكم" (يع 1:5ـ3). فكيف صدأ الذهب والفضة؟ بكونهما مخزونين بكميات هائلة، وهذا بعينه هو شهادة ضدهم أمام منبر الدينونة الإلهي، لكونهم غير رحومين، لأنهم جمعوا في كنوزهم كميات كبيرة لا يحتاجون إليها، ولم يعملوا أي اعتبار لمن كانوا في احتياج، مع أنه كان في استطاعتهم ـ لو هم رغبوا ـ أن يصنعوا خيرًا بسهولة لكثيرين، ولكنهم لم يكونوا أمناء في القليل.
لكن بأي طريقة يمكن للناس أن يصيروا أمناء؟ هذا ما علَّمنا إياه المخلِّص نفسه بعد ذلك، وأنا سأشرح كيف ...
طلب أحد الفريسيين منه أن يأكل خبزًا عنده في يوم السبت، وقَبِلَ المسيح دعوته، ولما مضى إلى هناك جلس ليأكل، وكان كثيرون آخرون أيضًا مدعوين معه، ولم يكن أحد منهم تظهر عليه سمات الفقر، بل على العكس كانوا كلهم من الوجهاء وعليَّة القوم ومحبّين للمجالس الأولى، ومتعطشين للمجد الباطل، كما لو كانوا متسربلين بكبرياء الغنى. فماذا قال المسيح لمن دعاه: " إذا صنعت غذاء أو عشاء فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء لئلا يدعوك هم أيضًا فتكون لك مكافأة، بل إذا صنعت ضيافة فادعُ المساكين الجدع والعرج والعمي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك، لأنك تُكافئ في قيامة الأبرار" (لو 12:14ـ14).
هذا هو إذن ما اعتقد أنه معنى أن يكون الإنسان أمينًا في القليل، أي أن تكون له شفقة على مَنْ هم في احتياج، ويوزِّع مساعدة ممّا لديّه، لمن هم في ضيق شديد. لكن نحن بازدرائنا بالطريق المجيد والذي له مجازاة أكيدة، فإننا نختار طريقًا معيبًا وبلا مكافأة، وذلك بأن نعامل باحتقار مَنْ هم في فقر مدقع، بل ونرفض أحيانًا أن نسمح لكلماتهم أن تدخل آذاننا، بينما نحن من ناحية أخرى، نُقيم وليمة مكلّفة وببذخ شديد إمّا لأصدقاء يعيشون في رغد، أو لمن اعتادوا أن يمدحونا أو يداهنونا، جاعلين كرَمنا فرصة لإشباع حبنا للمديح.
لكن هذا لم يكن هو قصد الله من سَمَاحِه لنا أن نمتلك ثروة، لذلك فإن كنا غير أمناء في القليل، بعدم تكييف أنفسنا وفقًا لمشيئة الله، وبإعطاء أفضل قِسْم لملذاتنا وافتخاراتنا، فكيف يمكننا أن ننال منه ما هو حق؟ وماذا يكون هذا الحق؟ هو الإنعام الفائض لتلك العطايا الإلهية التي تزيّن نفس الإنسان، وتجعل فيها جمالاً شبيهًا بالجمال الإلهي. هذا هو الغنى الروحي، وليس الغنى الذي يسمِّن الجسد المُمسك بالموت، بل هو بالأحرى ذلك الغنى الذي يُخلِّص النفس ويجعلها جديرة بأن يُقتدى بها، ومكرَّمة أمام الله، والذي يكسبها مدحًا وأمجادًا حقيقية.
لذلك فمن واجبنا أن نكون أمناء لله، أنقياء القلب، رحومين وشفوقين، أبرارًا وقديسين، لأن هذه الأمور تُطبَع فينا ملامح صورة الله، وتكمِّلنا كورثة للحياة الأبدية، وهذا إذن هو " الحق ".
وكون أن هذا هو مغزى ومقصد كلمات المخلِّص، فهذا هو ما يمكن لأي شخص أن يعرفه بسهولة مما يلي، لأنه يقول: " إن لم تكونوا أمناء فيما هو للغير فمن يعطيكم ما هو لكم؟". وأيضًا نحن نقول إن " ما هو للغير" هو الغنى الذي نمتلكه، لأننا لم نولد أغنياء بل على العكس، فقد وُلِدنَا عُراة، ويمكننا أن نؤكد هذا عن حق بكلمات الكتاب: " لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء" (1تي 7:6)، لأن أيوب الصبور قد قال أيضًا شيئًا من هذا القبيل: " عريانًا خرجت من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك" (أي 21:1). لذلك، فلا يملك أى إنسان بمقتضى الطبيعة أن يكون غنيًا، وأن يحيا في غنى وفير، بل إن الغنى هو شيء مُضاف عليه من خارجه، فهو مجرد إمكانية (أى يمكن أن يوجد أو لا يوجد)، فلو باد الغنى وضاع فهذا أمر لا يخلّ بأي حال بخصائص الطبيعة البشريّة، فإنه ليس بسبب الغنى نكون كائنات عاقلة وماهرين في كل عمل صالح، بل إن هذه هي خاصية للطبيعة البشرية أن نتمكّن من عمل هذه الأشياء.
لذلك كما قلت فإن " ما هو للغير " لا يدخل ضمن خصائص طبيعتنا، بل على العكس فمن الواضح أن الغنى إنما هو مُضاف إلينا من الخارج. ولكن ما هو لنا، وخاص بالطبيعة البشريّة هو أن نكون مؤهَّلين لكل عمل صالح، كما يكتب الطوباوي بولس: " قد خُلقنا لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها" (أف 10:2).
لذلك فعندما يكون البعض غير أمناء " فيما هو للغير"، أي في تلك الأشياء التي هي مضافة إليهم من الخارج، فكيف سينالون ما هو لهم؟ كيف سيصيرون شركاء الخيرات التي يعطيها الله والتي تزيِّن نفس الإنسان وتطبع فيها جمالاً إلهيًا، يتشكّل فيها روحيًا بواسطة البّر والقداسة، وبتلك الأعمال المستقيمة التي تُعمل في مخافة الله.
لذلك ليت مَنْ يمتلكون منا ثروة أرضية، يفتحون قلوبهم لأولئك الذين هم في احتياج وعوز، ولنظهر أنفسنا أمناء ومُطيعين لوصية الله، وتابعين لمشيئة ربنا في تلك الأشياء التي هي من خارج، وليست هي لنا، لكي ما ننال ما هو لنا، الذي هو ذلك الجمال المقدس والعجيب، الذي يُشكلِّه الله في نفوس الناس إذ يصوغهم على مثاله، بحسب ما كنّا عليه في الأصل.
أما أنه شيء مستحيل لشخص واحد بعينه أن يقسّم ذاته بين متناقضات، ويمكنه مع ذلك أن يحيا حياة بلا لوم، فالرب يوضح هذا بقوله: " لا يقدر خادم أن يخدم سيدين لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يكرم الواحد ويحتقر الآخر" (لو 13:16). وهذا في الواقع مثال واضح وصريح ومناسب جدًّا لشرح الموضوع الذي أمامنا، لأن الذي يترتب على هذا هو خُلاصة المناقشة كلها: " لأنكم لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"، وهو يقول: لأنه لو كان لإنسان أن يكون خادمًا لسيدّين لهما مشيئتان مختلفتان ومتضادتان، وفكر كل واحد منهما غير قابل للتصالح مع الآخر، فكيف يمكنه أن يرضيّهما كليهما؟ لأنه بسبب كونه منقسمًا في سعيه أن يعمل ما يوافق عليه كل منهما، يكون هو نفسه في تعارض مع مشيئتيهما معًا، وهكذا فإن نفس الشخص يلزمه حتمًا أن يُظهر أنه شرير وصالح، لذلك يقول الرب، إنه لو قرَّر أن يكون أمينًا للواحد فإنه سيبغض الآخر، لذلك يستحيل أن نخدم الله والمال. فمال الظلم، الذي يُقصَد به الغنى، هو شيء يُسلِّم للشهوانية، وهو معرَّض لكل لوم، ويولِّد الافتخار ومحبة اللّذة، ويجعل الناس غلاظ الرقبة وأصدقاء للأشرار ومتكبِّرين، نعم، أية رذيلة دنيئة لا يسببها في أولئك الذين يمتلكونه؟!
لكن مسرّة الله الصالحة تجعل الناس لطفاء هادئين متواضعين في أفكارهم، طويلي الأناة، رحومين، صبورين، غير محبين للربح، غير راغبين في الغنى وقانعين بالقوت والكسوة فقط، ويهربون على الأخص من محبة المال الذي هو أصل لكل الشرور (1تي 10:6)، ويباشرون بفرح الأتعاب لأجل التقوى، ويهربون من محبة اللّذة، ويتحاشون باجتهاد كل شعور بالتعب والكلل في الأعمال الصالحة، ودائمًا يُقدِّرون السعي إلى الحياة باستقامة وممارسة كل اعتدال، باعتبار أن هذه الأشياء هي التي تربح لهم المكافأة.
هذا هو "ما هو لنا" وما "هو الحق "، هذا هو ما سيسبغه الله على مَنْ يحبون الفقر، ويعرفون كيف يوزعون ـ على من هم في احتياج ـ " ما هو للغير" ويأتي من الخارج، أي غناهم الذي يُعرَف أيضًا باسم المال. فليتّه يكون بعيًدا عن ذهن كل واحد منا أن نكون عبيدًا له (المال)، لكي بهذا يمكننا بحريّة وبدون عائق أن نحني عنق ذهننا للمسيح مخلّصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب يحق التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين أمين.
المرجع: تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس السكندري، ترجمة د. نصحي عبد الشهيد، مركز دراسات الآباء
أفراتـــة بيت لحم _ القديس جيروم
أهم الفضائل _ أنطونيوس الكبير
"اذكر يا رب داود وكل دعته. كما أقسم للرب ونذر لإله يعقوب. إني لا ادخل إلى مسكن بيتي، ولا اصعد على سرير فراشي. ولا اعطي لعيني نوماً، أو لأجفاني نعاساً، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعاً للرب، ومسكنا لإله يعقوب. ها قد سمعنا بها (به) في أفراتة. وجدناها في موضع الغابة. فلندخل الى مساكنه. ونسجد في الموضع الذي استقرت فيه قدماه" (مز 132)
يقول داود هنا: أنني لا أسعى وراء أي موضع أخر لأستريح سوى المسيح، الذي سوف يولد من نسلي، كما أقسم الرب أنه يولد من ذريتي.
"إلى أن أجد موضعاً للرب، ومسكناً لإله يعقوب"
كثير من المفسرين يعتقدون أن هذا الكلام يرمز إلى الكنيسة، لكن بالنسبة لي، يبدو أنه يُشير لا للكنيسة بقدر ما هو يشير إلى القديسة مريم.
أنه حتى يقول:
"ها قد سمعنا بها في افراتَة ووجدناها في موضع الغابة"
ليتنا نقرأ الكتاب المقدس، ونتأمل ليلاً ونهاراً في كل مقطع وفي كل حرف، ولنحلل الكلام ونتناقش فيه.
قد يقول قائل أن أفراتَة هنا تشير إلى بيت لحم. وللتأكد من هذا، يمكننا الرجوع إلى سفر التكوين: "فماتت راحيل ودفنت في طريق افراتَة التي هي بيت لحم" (تك 19:35). هذا قيل عندما عندما ماتت راحيل زوجة يعقوب في أفراتة.
دعونا نبحث في أصل كلمة أفراتَه. إذ أنه مكتوب في سفر أخبار أيام أن مريم أخت موسى وهارون قد تزوجت رجل اسمه حور، وقيل عن ثمر هذا الزواج: "هؤلاء بنو حور: بكر افراتَة أبي بيت لحم ..". من هنا نفهم أن مريم أخت موسى وهارون هي أفراتَة. هذا إذن هو مصدر اسم أفراتَة في المزمور الذي نتناوله.
ربما يشكك أحد في هذا الاستنتاج لأنه جديد، لكنني أحيل مثل هذا الشخص إلى قانونية هذا السفر.
"ها قد سمعنا بها في أفراتة".
نقرأ في النص العبري "به" بدلاً من "بها"، موجهاً الأنتباه إلى شخص الرب الذي سوف يولد من نسل داود: "ها قد سمعنا به (أي بالرب) في أفراته (أي في مريم)
أما في السبعينية فنقرأ: "ها قد سمعنا بها في أفراتة"، إذ تُشير إلى مريم العذراء.
يمكننا أيضاً أن نفهم ببساطة أن أفراتة تشير إلى بيت لحم، وأن هذه الآية نبوة عن ميلاد المسيح في بيت لحم.
مُطوّب حقاً هذا المكان الذي أُحتفل به قبل فترة طويلة من الزمن في المزمور!
حقاً، جميع الأماكن مقدسة وموقرة، حيثما ولد المسيح، حيثما صُلب، حيثما قام من الأموات، حيثما صعد إلى السموات كمنتصر، إلا أن هذا المكان (بيت لحم) أكثر جلالاً كما يليق به تماماً. تأملوا فقط في رأفة الله وحنانه. هنا، قد ولد طفل صغير فقير، رضيع قد "اضجعته في مزود، إذ لم يكن لهم موضع في المنزل" (لو 2).
أيها الرهبان، لقد ولد الرب على الأرض، وليس له حتى قلاية لكي يولد فيها، لم يكن له حجرة في الفندق. كل الجنس البشري له مكان، أما الرب الذي على وشك أن يولد على الأرض ليس له أي مكان. لم يجد مكاناً بين البشر، لم يجد مكاناً في أفلاطون أو أرسطو، لكنه وجد مكاناً في مزود، بين بهائم الأحمال والحيوانات العجماء، وبين البسطاء أيضاً والأنقياء. لهذا السبب يقول الرب في الإنجيل: "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه" (لو 9).
Reference: Fathers of the Church Series, Volume 48, Jerome, Homily 44 on Psalms
ترجمة المدونة الآبائيةأهم الفضائل _ أنطونيوس الكبير
قال آبّا موسى في حديثه مع آبّا يوحنا كاسيان في شيهيت:
أذكر أنه في حداثتي لما كنت في الصعيد حيث يسكن الطوباوي أنطونيوس، أن جاء إليه الشيوخ يسألونه عن الكمال، ورغم أن الحديث امتدّ من المساء حتى الصباح التالي، إلا أنّ الجزء الأكبر من الليل انقضى في هذا السؤال وحده، لأنهم تباحثوا فيه بإسهابٍ، وهو:
أية فضيلة أو نظام رهباني يحفظ الراهب بلا مضرّة من فخاخ وضلالات الشيطان وتصعد به هذه الفضيلة في طريق مأمون صحيح ثابتة إلى قمم الكمال؟
وقال كل واحد منهم رأيه حسبما يعتقد. فالبعض اعتبر أنّ الكمال كائنٌ في الصوم والسهر بغيرة، فالنفس التي تكون قد انسحقت بهما واكتسبت نقاوة القلب والجسد يسهل عليها الإتحاد بالله. وآخرون اعتبروا الكمال متوقفاً على احتقار أمور هذا العالم حتى إذا تجرّد الذهن تماماً يقترب بغير عوائق من الله، إذ لن تُربكه فيما بعد أيّة فخاخ شيطانية.
وآخرون رأوا أنّ الحاجة الضرورية هي إلى البعد عن العالم أي التوحُّد وحياة النسك الخفيّة، إذ أنها هي الحياة التي يتهيّأ فيها الإنسان أكثر للشركة مع الله والالتصاق به على وجه خصوصي. بينما أكّد البعض أنّ الكمال هو في إتمام واجبات المحبة أي ممارسة أعمال الرحمة، لأن الرب وعد في الإنجيل أن يهب الملكوت لهؤلاء بالذات عندما قال: "تعالوا إليَّ يا مباركي أبي رثوا المُلك المعدّ لكم منذ تأسيس العالم، لأني كنتُ جوعاناً فأطعمتموني، كنتُ عطشاناً فسقيتموني ..." (مت 25). وعلى هذا المنوال ظهر أنه بواسطة فضائل مختلفة يمكن للإنسان إلى حدٍّ ما أن يتقرَّب إلى الله.
فلما عبر الجانب الأكبر من الليل في هذه المناقشة، تكلّم أخيراً الطوباوي أنطونيوس وقال:
"كل ما ذكرتموه نحتاج إليه حقاً وهو معينٌّ للمتعطشين إلى الله والمشتاقين للاقتراب إليه، إلاّ أن حوادث كثيرة وخبرة الكثيرين علّمتنا أنّ أهم المواهب ليست كائنة في هذه الفضائل. فقد يكون البعض جادّين في الصوم أو السهر بحرارة ومنقطعين بشجاعة للتوحد وقد اتجهوا إلى التجرُّد مما لهم إلى أقصى درجة حتى إنهم لا يحملون همّ طعام يومٍ واحد أو بقاء فلس واحد معهم، ويتمّمون كل واجبات المحبة بمنتهى الإخلاص، وإذ بنا نجدهم يُخدعون فجأةً حتى إنهم لا يكمّلون العمل الذي بدأوه إلى غايته الصحيحة، بل بغيرتهم الشديدة وحياتهم التي تستحق المديح يبلغون إلى نهاية مرعبة.
لذلك يمكننا أن نتعرّف بوضوح على الطريق المؤدّية بنا إلى الله مباشرةً إذا تتبعنا بعناية علّة سقوطهم وانخداعهم. فعندما تتوافر فيهم الفضائل التي ذكرتموها بغزارة يعوزهم شيء واحد فقط وهو التمييز والإفراز، لذلك لا يتمكنوا من المثابرة إلى النهاية، كما لا يمكنهم اكتشاف علّة سقوطهم لأنهم لم يتعلموا من شيوخهم كما يجب، فلم يكتسبوا صحة الحكم على الأمور ولا الإفراز الذي يعلم الراهب إلاّ يتطرّف في سيره بل يتخذ الطريق الملوكي، فلا ينتفخ ويتكبر بالانحراف في طريق الفضيلة يميناً، وذلك بالاندفاع الأعمى في جسارة غبية إلى درجة تخطي حدود الاعتدال المطلوب، ولا الانحراف يساراً بأن يرتاح إلى التواني متظاهراً بضبط الجسد فيزداد بالعكس تراخياً إلى أن يبلغ إلى روح الفتور.
لأن هذا هو الإفراز الذي عبّر عنه الإنجيل بـــ "العين" و"سراج الجسد" حسب قول المخلص: "سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّراً، ولكن إن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمأً" (مت 6).
فالعين إذ تميّز أعمال الناس وأفكارهم فهي ترى وتفحص كل الأمور التي ينبغي عملها، ولكن أيّ إنسان إن كانت عينه شريرة أي غير محصّنة بالمعرفة والحكم السليم أو مخدوعة بأي خطأ أو تهوُّر، فإنّ جسده يصير كله مظلماً، أي أنّ رؤيته العقلية وكل أعماله تصير مظلمة لأنها تكون غارقة في ظلمة الرذائل وضباب الاضطرابات، لأنه يقول: "إن كان النور الذي فيكم ظلاماً فالظلام كم يكون؟".
فلا شك أنه عندما يكون حكم القلب خاطئاً وغارقاً في ليل الجهالة، فإن أفكارنا وأعمالنا الناتجة عن عدم التأني وتشاور الفكر والإفراز تكون حتماً غارقة في ظلمة خطايا أعظم".
المرجع: مناظرات القديس يوحنا كاسيان، المناظرة الثانية، ة عن كتاب فردوس الآباء الجزء الأول، إعداد راهب ببرية شيهيت.
لباس العرس _ غريغوريوس الكبير
"وجعل يسوع يكلمهم ايضا بامثال قائلا. يشبه ملكوت السموات انسانا ملكا صنع عرسا لابنه. وارسل عبيده ليدعوا المدعوين الى العرس فلم يريدوا ان ياتوا. فارسل ايضا عبيدا اخرين قائلا قولوا للمدعوين هوذا غذائي اعددته. ثيراني ومسمناتي قد ذبحت وكل شيء معد.تعالوا الى العرس. ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد الى حقله واخر الى تجارته. والباقون امسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم. فلما سمع الملك غضب وارسل جنوده واهلك اولئك القاتلين واحرق مدينتهم. ثم قال لعبيده اما العرس فمستعد واما المدعوون فلم يكونوا مستحقين. فاذهبوا الى مفارق الطرق وكل من وجدتموه فادعوه الى العرس. فخرج اولئك العبيد الى الطرق وجمعوا كل الذين وجدوهم اشرارا وصالحين.فامتلا العرس من المتكئين. فلما دخل الملك لينظر المتكئين راى هناك انسانا لم يكن لابسا لباس العرس. فقال له يا صاحب كيف دخلت الى هنا وليس عليك لباس العرس.فسكت. حينئذ قال الملك للخدام اربطوا رجليه ويديه وخذوه واطرحوه في الظلمة الخارجية.هناك يكون البكاء وصرير الاسنان. لان كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون" (مت 22)
أولاً علينا أن نسأل ما إذا كان هذا المثل في متى هو ما يصفه لوقا بالعشاء، لأن بعض التفاصيل مختلفة. هنا تتمُّ الوليمة في مُنتصف النهار، وهناك في العشاء. هنا طُرد من لم يكن لابساً لباس العُرس، وهناك لم يُطرد أحد ممن دخلوا إلى الوليمة. نستنتجُ من تلاوة متى أن وليمة العُرس تُمثل كنيسة الزمن الحاضر، بينما يُمثِّل العشاء في لوقا الوليمة الأخيرة الأبدية. بعض الَّذين يدخلون إلى الأولى سيتركونها أمَّا الذين يدخلون إلى الأخرى فلن يغادروها ...
فالأوضحُ والأثبتُ أن نقول أنَّ الآب أقام وليمة عُرس لابنه بضمِّ الكنيسة إليه في سر تجسُّده. فرحم العذراء التي وَسِعَتهُ كانت خدر عروسه، ولذلك يقول كاتب المزامير: "جعل للشمس مسكناً فيها (هناك للشمس نَصَبَ خيمة)، وهو مثل العريس الخارج من خدره" (مز 19). هو كعريس بَزَغَ من خدره، فترك ــ كإله متجسد ــ رَحِم العذراء التي لم تُمسّ ليضم إليه الكنيسة. هكذا أرسل خدامه ليدعوا أصدقاءه إلى وليمة العُرس. أرسل الأنبياء أولاً ثم التلاميذ، ليُبشروا بتجسد الرب. أرسل خدامه للدعوة مرتين، لأنه أعلن بأنبيائه أن ابنه الأوحد سيتجسد، وأعلن على ألسنة الرسل أنه تجسد.
ولأن المدعوِّين الأوائل رفضوا الحضور قال في دعوته الثانية: "هوذا غذائي أعددته. ثيراني ومسمناتي قد ذُبحت، وكل شيء مُعَدُّ تعالوا الى العرس.ولكنهم تهاونوا ومضوا واحد الى حقله واخر الى تجارته"
قال إنهم لم يُبالوا بدعوته، فمنهم من ذهب إلى حقله، ومنهم من ذهب إلى تجارته. أن تذهب إلى حقلك يعني أن تُقحِم نفسك إقحاماً مُفرطاً في السعي الأرضي. وأن تذهب إلى تجارتك يعني أن تشتهي الربح المُتأتي من نشاطاتك الدُنيوية. الأول مُهتمُّ بالسعي الأرضي، والآخر مُتفانٍ في عمل هذا العالم. ما من أحد منهم يلحَظُ سر تجسد الرب، ويبتغي العيش بما يتماشى معه. كأنهم في إقبالهم على حقلهم أو تجارتهم، يرفضون حُضور وليمة عُرس الملك. البعض لا يرفضون عطيَّة الذي يدعوهم فحسب، إنما يضطهدون من يَقبلها. لذلك أضاف قائلاً: "والباقون أمسكوا عبيده وشتموهم وقتلوهم. فلما سمع الملك غَضَب، وأرسل جُنوده وأهلك أولئك القاتلين وأحرق مدينتهم". الله يُهلك القتلة والمُضطهدين، ويُحرق مَدينتهم، أي أرواحهم ويُعذب أجسادهم بنار جهنم الأبدية.
اعتذارُ المدعويّن عن الحضور لم يَحمِل رب البيت على ترك وليمة عُرس ابنه الملك خاوية من الضيوف. أرسل يدعو غيرهم. فمع أن كلمة الله في خطر، إلاَّ أنها ستبلُغُ الراحة. قال لخدامه: "الوليمة مُهيأة، والذين دعوناهم كانوا غير مستحقين، فاذهبوا إلى مفارق الطُرق وادعوا إلى الويمة كل من تجدونهم". إذا اعتبرنا أن الطُرق في الكتاب المقدس تُشير إلى أعمالنا، فإن مفارق الطرق هي أعمالنا الساقطة. فالذين لا ينجحون في أعمالهم الأرضية غالباً ما يثُوبون بسُرعة إلى الله.
وخرج خدامه إلى الطرق وجمعوا كل من وجدوا من أشرار وأخيار فامتلأت وليمة العُرس بالمدعوين. إنَّ خصائص المُتكئين في الوليمة تَكشفُ بوضوح عن أن وليمة عُرس الملك تُمثِّل كنيسة هذا الزمن حيث يجتمع الأشرار والأخيار. الكنيسة مزيجٌ جامعٌ من أمم مُتنوعة. فهي تقودهم جميعاً إلى الإيمان. لكنها لا تقودهم كلهم إلى حُرية النعمة الروحية بنجاح بسبب التَّحولات في حياتهم، فخطاياهم تعيقهم. ولأننا نعيش في هذا العالم وَجَبَ علينا سلوك طريق الدهر الحاضر مُجتمعين أبراراً وأخياراً. ستتم عملية الفرز بينهم عندما نبلُغُ هدفنا: الأخيار في السماء، والأشرار في الجحيم. هذه الحياة قائمة بين السماء والجحيم. فهي تمتدُّ في الوسط ــ إن جاز التعبير ــ وتضمُّ الفئتين. الكنيسة تقبلهم الآن من غير تفريق، لكنها تُغربلهم لاحقاً عندما يُقبضون إلى الخالق.
لكن، بما أنكم دخلتُم إلى قاعة العُرس، إلى كنيسيتنا المُقدسة، بسبب سخاء الله، فاحرصوا، يا إخوة، على أن لا يجد الملكُ عند دخوله عيباً في مظاهر ملابس قُلوبكم. يجب أن نقبل في قلوبنا ما يأتي مُستقبلاً بخوف عظيم. ودخل الملك لينظر إلى المدعوّين، فرأى هُناك رجلاً لم يكن لابساً لباس العُرس.
ما هو، يا إخوتي الأحباء، معنى لباس العُرس؟
فإن قلنا إنه المعمودية أو الإيمان، فهل دخل أحدٌ إلى احتفال العُرس بدونهما؟
يبقى خارجاً الشخص الذي لم يؤمن بعد.
علينا أن نفهم أن لباس العُرس هو المحبة.
قد يدخل ابن الكنيسة احتفال العُرس بدون أن يلبس لباس العُرس. ربما كان مؤمناً، لكنه كان عارياً من المحبّة. فنحن على صواب إذا قلنا إن المحبة هي لباس العُرس، لأن هذا ما تحلَّى به الخالق نفسه حين جاء إلى احتفال العُرس ليضم الكنيسة إليه. وَحدَها محبة الله تحقَّقت بأن ضمَّ ابنه الأوحد قلوب مختاريه إلى نفسه. إذ يقول يوحنا: "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنهُ الوحيد" (يو 3).
المرجع: أربعون مواعظ إنجيلية، للقديس غريغوريوس الكبير. التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدس، تفسير إنجيل متى، ترجمة د. ميشال نجم، جامعة البلمند.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق